يواصل غريزة الاقتداء، الذي أعدَّه جيرمي لينت، هذا التقليد المتمثِّل في السرد التاريخيِّ الشامل، متعدِّد التخصّصات، المكتوب بلغة غير تقنية، الذي يمكن قراءته بوضوح، ويكون مسلّياً، لكنَّه سرد متطوّر ورائع من الناحية الفكريَّة. في هذا الكتاب، يقدِّم المؤلّف منظوراً جديداً، يسمّيه “التاريخ المعرفيّ”. بدلاً من النهج التقليديّ الذي يفترض أنَّ اتّجاه التاريخ يتحدَّد، في نهاية المطاف، من خلال الأسباب الماديَّة – الجغرافيا والاقتصاد والتكنولوجيا وما شابه ذلك – وهو يجادل في أنَّه، تتبّعَ الرغبة الإنسانيَّة الأساسيَّة في إكساب ما يحيطنا بالمعنى، «تبني الثقافات المختلفة استعارات أساسيَّة لصنع معنى من عوالمها، وهذه الاستعارات تصوغ القيم التي تقود في نهاية المطاف تصرُّفات الناس».
يطبِّق جيريمي لينت هذه النظرة الثاقبة على التاريخ، إذ يدرك قدرة العقل البشريّ على بناء واقعه الخاصّ، ويجادل في أنَّ “الأطر المعرفيَّة التي ترى الثقافات المختلفة من خلالها الحقيقة، كانت ذات تأثير عميق في اتّجاهها التاريخيّ.” إشراك القارئ في “علم آثار العقل”، يوضّح كيف أنَّه في عصور مختلفة من التاريخ، يمكن تعريف الأطر المعرفيَّة المهيمنة من حيث أنماط جوهريَّة معيَّنة من المعنى: ” كلّ شيء مرتبط”، “تراتبيَّة الآلهة”، “تقسيم الكون، انقسام الإنسان”، “شبكة الحياة المتناغمة”، “الطبيعة كآلة”، وهلمَّ جرّا.
من هذا المنظور المعرفيّ، يقترح إجابات جديدة عن بعض الأسئلة القديمة في تاريخ البشريَّة: هل طبيعتنا الحقيقيَّة أنانيَّة تنافسيَّة، أو متعاطفة وذات عقليَّة مجتمعيَّة؟ كيف مهَّد صعود الزراعة المسرح لأزمتنا البيئيَّة الحاليَّة؟ لماذا حدثت الثورة العلميَّة في أوروبا وليس في الحضارة الصينيَّة أو الإسلاميَّة؟ ما الأسباب الجذريَّة لثقافتنا العالميَّة الحديثة المتمثلة في الاستهلاك المتفشِّي، وهل هناك طريقة يمكننا من خلالها تغيير تلك الثقافة؟
في زمن الأزمة العالميَّة هذا، الذي يحتاج بشدَّة إلى التوجيه من خلال استعارات جديدة تؤكِّد على الحياة، أصبحت الإجابات عن هذه الأسئلة أكثر أهميَّة من أيِّ وقت مضى.